كيف استفادت “جنرال إلكتريك” من إخفاقات قطاع طاقة الرياح؟
تحيق المتاعب بقطاع طاقة الرياح في كل مكان هذه الأيام، فقد أضر التضخم وارتفاع أسعار الفائدة وفوضى سلاسل التوريد وهفوات مكلفة من حيث الجودة، بأرباح وأسعار أسهم مطوري مزارع الرياح مثل شركة “أورستيد” (Orsted) وبمصنعي العنفات، ومنهم شركة “سيمنز إنرجي” (Siemens Energy).
ظهر أحدث مؤشر على تلك الاضطرابات في 31 أكتوبر، حين تخلت “أورستيد” عن مشروع لإقامة مزرعتي رياح ضخمتين قبالة ساحل نيوجيرسي الأميركية. وجه الإلغاء ضربةً موجعةً لمساعي صناعة طاقة الرياح الأميركية الناشئة، التي تهدف إلى تحقيق هدف إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لإقامة منشآت تستجر طاقة الرياح البحرية غير المستغلة حالياً لتوليد 30 غيغاواط من الطاقة الكهربائية بحلول 2030.
لكن ما ظاهره سوء حظ، جاء كنعمة لشركة “جنرال إلكتريك”، أكبر صانعة لعنفات الرياح في الولايات المتحدة. تعاقدت الشركة على توريد نحو 100 عنفة عملاقة لتوليد الكهرباء من الرياح البحرية في أول مشاريع “أورستد” قبل ثلاث سنوات تقريباً، وقد وقعت الصفقة، التي اقتربت قيمتها من 1.5 مليار دولار قبل الارتفاع الكبير في تكاليف الصناعة، وكان يُتوقع أن تتكبد “جنرال إلكتريك” خسائر فادحة عن كل برج تسلمه.
التزامات خاسرة
سيكون أي سبب يشطب طلبيات العقود الخاسرة البالغة قيمتها 6 مليارات دولار من حسابات “جنرال إلكتريك” لطاقة الرياح البحرية، مكسباً كبيراً للشركة، بل إنه قد يحسّن نشاط الطاقة المتجددة لديها ليكون على أساس مالي أثبت، فيما يقترب رئيسها التنفيذي لاري كولب من إتمام خطته لتجزئة الشركة.
يعد فصل عمليات “جنرال إلكتريك” في قطاع الطاقة المتجددة، آخر جزء من إعادة الهيكلة الضخمة التي نفذها كولب لتفكيك شركة كانت بين أكبر الشركات الأميركية الرائدة قبل نحو عقد. لقد فصل كولب وحدة الخدمات المالية التي أعاقت “جنرال إلكتريك” بديون ومخاطر خفية، كما انتهى تقريباً من تنفيذ خطته لتقسيم الشركة إلى ثلاث شركات مساهمة عامة تنشط في قطاعات متباينة هي الرعاية الصحية والطيران والطاقة، وقد وعد “وول ستريت” بأن الشركات الثلاث ستُصنف في الدرجة الاستثمارية ائتمانياً.
كان نشاط منتجات الرعاية الصحية لدى “جنرال إلكتريك” قد انفصل في يناير، فيما قال كولب إن أنشطة قطاع الطاقة، التي تعثرت بسبب مشكلات التكلفة والتسعير، ستكون جاهزة للفصل والعمل كشركة مستقلة تحت علامة “جنرال إلكتريك فيرنوفا” (GE Vernova) بحلول مطلع أبريل. قد يعزز نجاح خطة التفكيك إرث كولب باعتباره الرئيس التنفيذي الذي أنقذ شركةً ساهم توماس إديسون في تأسيسها.
كانت شركة “جنرال إلكتريك رينيوابل إنرجي” تكتسب زخماً بصمت بعدما خسرت 5.6 مليار دولار خلال الفترة من 2019 حتى الربع الثالث من هذا العام. وكانت شركة طاقة الرياح البرية التابعة لها قد حققت أرباحاً خلال الربع الثالث، بعدما تسببت بمعظم الخسارة الفادحة التي تكبدها نشاط الطاقة المتجددة بمجمله العام الماضي، وقدرها 2.2 مليار دولار.
قد تشهد هذه السنة، تحقيق نشاط شبكات الكهرباء لدى الشركة، وهو النشاط الذي ينتج أجهزةً وأنظمةً لشبكات الكهرباء، أول ربح سنوي له منذ سنوات. كما سيقلل تعثر “أورستيد” الأخير بشكل كبير من معدل إنفاق وحدة “جنرال إلكتريك” لطاقة الرياح البحرية، واحتمالات خسائرها المستقبلية، وفقاً لشركة “وولف ريسيرش” للأبحاث. سبق أن أعلنت “جنرال إلكتريك” أن مجموع عقود وحدة طاقة الرياح البحرية سيتسبب بخسائر قدرها مليار دولار خلال العامين الحالي والمقبل.
قال كولب: “إذا سمعتم مني أي شيء يتسم بالحماس والثقة المتزايدة خلال آخر مكالمة إعلان نتائح، فالأمر لا يتعلق بكل ما هو جيد ورائع في مجال الطيران التجاري حالياً. بل مرده اقترابنا من تحول في أحوال نشاط الطاقة المتجددة”.
مستقبل بلا معوقات
كانت الفكرة واضحة عندما أعلن كولب قبل عامين عن إعادة الهيكلة، التي وصفها أحد محللي “جنرال إلكتريك” المحنكين بأنها أكثر عملية تجزئة كانت متوقعة في تاريخ الشركات متعددة النشاطات. إذ أحجم المستثمرون عن ضخ أموالهم في هيكل التكتل الذي جسدته شركة “جنرال إلكتريك” قبل عقدين، عندما أصبحت الشركة الأعلى قيمة في العالم تحت إدارة رئيسها التنفيذي آنذاك جاك ويلش.
كان مستقبل “جنرال إلكتريك فيرنوفا” أقل وضوحاً. فقد شكلت “جنرال إلكتريك باور” (GE Power) صلب مشكلات التدفق النقدي للشركة، التي أدت لتولية كولب في 2018. وقد قال كولب إن هناك من نصحوه ببيعها. كما لم تسجل “جنرال إلكتريك رينيوابل إنرجي” التي تضم قطاعات طاقة الرياح البرية والبحرية والنشاطات التي تعتمد على منتجاتها شبكات الكهرباء، أرباحاً ربعية منذ 2019. سرحت “جنرال إلكتريك” نحو 30% من القوى العاملة في نشاط طاقة الرياح البرية لديها، في إطار إعادة هيكلة كبرى بدأت العام الماضي.
لقد بدأت تتجلى صورة أكثر إشراقاً، حيث حققت “جنرال إلكتريك باور”، بعد تقليص حجمها، أكبر أرباح تشغيلية لها منذ 2017 وقدرها 1.2 مليار دولار العام الماضي، رغم انخفاض الإيرادات بمقدار النصف تقريباً خلال نفس الفترة. كما أن خسائر “جنرال إلكتريك رينيوابل إنرجي” تراجعت إلى -7.6% ،في الربع الثالث من -26% في العام الماضي.
قال كولب عن رئيس “جنرال إلكتريك فيرنوفا” التنفيذي سكوت سترازيك ومعاونيه: “لقد حققوا تحولاً ملحوظاً في شركة (جنرال إلكتريك باور) التي كان بعض الناس ينصحونني خلال الأشهر الستة الأولى من مباشرتي لعملي بأن أحاول بيعها… كان هذا هو المنهج الذي اتبعناه أساساً لإنجاح عمليات طاقة الرياح البرية وشبكات الكهرباء”.
في العام الماضي، انخفضت مبيعات وحدة “جنرال إلكتريك” لتصنيع عنفات الرياح البرية، بعدما انقضى أمد إعفاءات ضريبية أميركية رئيسية في نهاية 2021، ما أجلس المطورين على مقاعد المتفرجين بانتظار أن ينتهي الكونغرس من مناقشة تمديد أمدها. لكن إقرار قانون الرئيس بايدن لكبح التضخم في 2022 غيّر حالة عدم اليقين تلك في أكبر سوق لشركة “جنرال إلكتريك”، بأن جعل التنبؤ بالإعفاءات الضريبية ممكناً على مدى عقد مقبل، إصافة لإحداثه حوافز أخرى يُتوقع أن تدفع تركيب عنفات الرياح بقوة.
كما بدأ قانون كبح التضخم بتحفيز “جنرال إلكتريك” لتضخ استثمارات جديدة في سلسلة توريد طاقة الرياح في الولايات المتحدة، مثلما ساعد القانون ذاته بإحداث طفرة في خطط إنشاء مصانع جديدة لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية.
تنتج الشركة حالياً عنفات للرياح على البر في خط تجميع جديد لها في شينيكتادي بولاية نيويورك. كما تبحث الشركة مع مسؤولين في نيويورك لإضافة مصنعين آخرين لتعزيز إنتاج طاقة الرياح البحرية، مدعومين باستثمارات حكومية قدرها 300 مليون دولار أعلنت عنها حديثاً الحاكمة الديمقراطية للولاية كاثي هوكول.
قال أتين جين، أحد كبار محللي استثمارات طاقة الرياح لدى “بلومبرغ إن إي إف” لأبحاث تمويل الطاقة المتجددة: “لا يضع المرء خطط توسع إلا إذا كان لديه يقين مطلق بشأن نجاحها، خاصة في بيئة لا تسير فيها الأمور على ما يرام”.
تحديات كبيرة
تقول “جنرال إلكتريك” إنها تعمل أيضاً على تقليص تركيزها الجغرافي في دعم جهود الطاقة المتجددة، فهي تسعى لإبرام صفقات جديدة لإنتاج عنفات الرياح البرية في نحو نصف البلدان التي تعاقدت معها قبل عامين فقط، وتعطي أولويةً لأميركا الشمالية.
قال كولب إن مشروعات الشركة في مناطق نائية خارج الولايات المتحدة وأوروبا كانت في بعض الأحيان “صفقات وقعناها بطموح ربما كان حينئذ يفوق قدرتنا على الإيفاء بها”.
كانت الشركة تعمل على معالجة مشكلات أخرى، بما في ذلك بعض الضرر الذي ألحقته بنفسها.
فقد تكبدت 500 مليون دولار العام الماضي في إطار حملة إصلاح مترامية الأطراف لتحسين موثوقية عنفات الرياح البرية التي ركبتها. إذ أن تصاميم العنفات التي أنتجتها كانت متنوعةً بشكل قوّض قدرتها على إنتاجها بكميات كبيرة وبجودة متسقة.
غير أن “جنرال إلكتريك” بصدد التحوّل الآن إلى ما تسميه عنفات “اعتمادية” يمكن إنتاجها بكميات أكبر، وهي تخطط لتقليل عدد تصاميم الأبراج التي كانت متاحة في 2021 من 40 إلى 9، إضافة إلى تقليل أنماط الشفرات المثبتة على محور العنفة من 15 إلى 4، بحلول 2025.
شكلت العنفات الاعتمادية نحو 70% من مبيعات “جنرال إلكتريك” لمعدات توليد طاقة الرياح البرية المسجلة خلال الربع الثالث، كما يُفترض أن يوفر إعداد قائمة طلبات ضخمة بأسعار معقولة حالياً أن يوفر هوامش ربح أفضل. قال كولب: “إننا نرى تحولاً حقيقياً في النشاط”.
مع ذلك، ما تزال هناك تحديات في الأفق، فقد توقعت “جنرال إلكتريك” في مارس أن يحقق قطاع الطاقة المتجددة أرباحاً في العام المقبل، لكن محللي “وول ستريت” ما زالوا متشككين، ويقدّرون أن تلك الوحدة ستخسر قرابة 370 مليون دولار. قد تخفف مشروعات “أورستد” لتوليد طاقة الرياح البحرية الملغاة ما يقول كولب إنه طلبيات تعتريها مصاعب لتلك المشاريع، لكنه وآخرين في الصناعة يقولون إن قطاع الطاقة النظيفة بحاجة إلى تغييرات أكبر كي تزدهر تلك الشريحة من القطاع، بما يشمل “جنرال إلكتريك”.
أضاف كولب: “سيتعين علينا إيجاد توازن اقتصادي مختلف إن أردنا تحقيق عوائد إيجابية من مشروعات توليد طاقة الرياح البحرية لكل من يستثمر في هذا القطاع من السوق”.